كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدْ بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ بَيَانٌ لَهُ وَاسْتِنْبَاطٌ مِنْهُ. وَذَكَرْنَا بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا فِي التَّفْسِيرِ وَفِي الْمَنَارِ، ثُمَّ رَأَيْنَا النَّقْلَ فِي ذَلِكَ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، فَقَدْ قَالَ: جَمِيعُ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. ذَكَرَهُ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ فِي رُوحِ الْبَيَانِ. وَمَنْ أَجْدَرُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَهْمِ الْوَهْبِيِّ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدِ اخْتَصَّهُ اللهُ بِإِنْزَالِهِ إِلَيْهِ، وَبِبَيَانِهِ لِلنَّاسِ؟ وَتَقَدَّمَ إِيضَاحُ هَذَا الْبَحْثِ فِي تَفْسِيرِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَكَابِرَ الصُّوفِيَّةِ مَا لَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْقُرْآنِ يَنْبُوعَ عُلُومِ الدِّينِ، بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِكَوْنِهِ يَنْبُوعَ جَمِيعِ الْعُلُومِ وَالْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ كُلِّهَا، وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فَنُوَفِّيهِ حَقَّهُ، إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (6: 38) وَمَا فِي مَعْنَاه.
{وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} رَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ بِضْعَةِ رِجَالٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحْرَسُ فِي مَكَّةَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ تَرَكَ الْحَرَسَ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ أَوَّلَ النَّاسِ اهْتِمَامًا بِحِرَاسَتِهِ، وَحَرَسَهُ الْعَبَّاسُ أَيْضًا، وَمِمَّا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحْرَسُ، وَكَانَ يُرْسِلُ مَعَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ كُلَّ يَوْمٍ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَحْرُسُونَهُ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ، فَقَالَ: يَا عَمِّ، إِنَّ اللهَ قَدْ عَصَمَنِي، لَا حَاجَةَ لِي إِلَى مَنْ تَبْعَثُ»، وَمَعْنَى {يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}: يَمْنَعُكَ مِنْ فَتْكِهِمْ، مَأْخُوذٌ مِنْ عِصَامِ الْقِرْبَةِ؛ وَهُوَ مَا تُوكَأُ بِهِ؛ أَيْ مَا يُرْبَطُ بِهِ فَمُهَا مِنْ سَيْرِ جِلْدٍ أَوْ خَيْطٍ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: الْكُفَّارُ الَّذِينَ يَتَضَمَّنُ تَبْلِيغُ الْوَحْيِ بَيَانَ كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَفَسَادِ عَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَالنَّعْيِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَلَفِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَغِيظُهُمْ، وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى الْإِيذَاءِ؛ لِذَلِكَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَصَدَّوْنَ لِإِيذَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَائْتَمَرُوا بِهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَرَّرُوا قَتْلَهُ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى عَصَمَهُ مِنْهُمْ. وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْيَهُودُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ فَقَدْ وُضِعَتْ فِي سِيَاقِ تَبْلِيغِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عُرْضَةً لِإِيذَائِهِمْ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي عَصَمَهُ مِنْ كَيْدِهِمْ، وَلِتُذَكِّرَ بِمَا كَانَ مِنْ إِيذَاءِ مُشْرِكِي قَوْمِهِ مِنْ قَبْلِهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} فَهُوَ تَذْيِيلٌ تَعْلِيلِيٌّ لِلْعِصْمَةِ؛ أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِي أُولَئِكَ النَّاسَ، الَّذِينَ هُمْ بِصَدَدِ إِيذَائِكَ عَلَى التَّبْلِيغِ، وَهُمُ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ، إِلَى مَا يَهُمُّونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يَكُونُونَ خَائِبِينَ، وَتَتِمُّ كَلِمَاتُ اللهِ تَعَالَى حَتَّى يَكْمُلَ بِهَا الدِّينُ.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} أَيْ {قُلْ} لِأَهْلِ الْكِتَابِ، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فِيمَا تُبَلِّغُهُمْ عَنِ اللهِ تعالى: {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَلَا يَنْفَعُكُمُ الِانْتِسَابُ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيِّينَ {حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} فِيمَا دُعِيَا إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَفِيمَا بَشَّرَا بِهِ مِنْ بَعْثَةِ النَّبِيِّ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ الْمَسِيحُ بِرُوحِ الْحَقِّ، وَبِالْبَارَقْلِيطِ {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} عَلَى لِسَانِهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَكْمَلَ بِهِ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، عَلَى حَسَبِ سُنَّتِهِ فِي النُّشُوءِ وَالِارْتِقَاءِ بِالتَّدْرِيجِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ: مَا أُنْزِلَ عَلَى سَائِرِ أَنْبِيَائِهِمْ، كَمَا قِيلَ مِثْلُهُ فِي آيَةِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ وَلَمْ يَبْعُدِ الْعَهْدُ بِهِ فَنُعِيدُهُ، إِلَّا أَنَّ ذَاكَ حِكَايَةٌ مَاضِيَةٌ، وَهَذَا بَيَانٌ لِلْحَالِ الْحَاضِرَةِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ فِي الزَّمَنَيْنِ قَائِمَةٌ؛ فَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُقِيمِينَ لِتِلْكَ الْكُتُبِ قَبْلَ هَذَا الْخِطَابِ، وَلَا فِي وَقْتِهِ، وَلَا كَانَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ أَنْ يُقِيمُوهَا فِي عَهْدِهِ، كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُقِيمُوهَا الْآنَ، فَهَذَا تَعْجِيزٌ لَهُمْ وَتَفْنِيدٌ لِدَعْوَاهُمُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ اتِّبَاعِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، بِاتِّبَاعِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمُ السَّابِقِينَ، وَلَا يَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ بِسَلَامَةِ تِلْكَ الْكُتُبِ مِنَ التَّحْرِيفِ. وَمِثْلُهُ أَنْ تَقُولَ الْآنَ لِدُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْأَمْرِيكَانِ وَالْأَلْمَانِ وَالْإِنْكِلِيزِ: يَا أَيُّهَا الدَّاعُونَ لَنَا إِلَى اتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، نَحْنُ لَا نَعْتَدُّ بِكُمْ، وَلَا نَرَى أَنَّكُمْ عَلَى إِيمَانٍ وَثِقَةٍ بِدِينِكُمْ، وَصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ فِي دَعْوَتِكُمْ، حَتَّى تُقِيمُوا أَنْتُمْ وَأَهْلُ مِلَّتِكُمُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ اللَّذَيْنِ فِي أَيْدِيكُمْ، فَتُحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَتُبَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ، وَتُعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ، وَتَخْضَعُوا لِكُلِّ سُلْطَةٍ؛ لِأَنَّهَا مِنَ اللهِ، وَإِذَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ أَحَدٌ فَلَا تَعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، بَلْ أَدِيرُوا لَهُ الْخَدَّ الْأَيْسَرَ إِذَا ضَرَبَكُمْ عَلَى الْخَدِّ الْأَيْمَنِ، وَاتْرُكُوا التَّنَافُسَ فِي إِعْدَادِ آلَاتِ الْفَتْكِ الْجُهَنَّمِيَّةِ؛ لِيَكُونَ لِلنَّاسِ السَّلَامُ فِي الْأَرْضِ، وَاخْرُجُوا مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ وَالثَّرْوَةِ الْوَاسِعَةِ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ لَا يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، وَلَا تَهْتَمُّوا بِرِزْقِ الْغَدِ... إِلَخْ. وَنَحْنُ نَرَاكُمْ عَلَى نَقِيضِ كُلِّ مَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ؛ فَأَنْتُمْ لَا تَخْضَعُونَ لِكُلِّ حَاكِمٍ، بَلْ مَيَّزْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَاسْتَعْلَيْتُمْ عَلَى الشَّرَائِعِ وَالْحُكَّامِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَإِذَا اعْتُدِيَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ فِي بُقْعَةٍ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ تُجَرِّدُونَ سُيُوفَ دَوْلَتِكُمْ، وَتُصَوِّبُونَ مَدَافِعَهَا عَلَى بِلَادِ الْمُعْتَدِي وَدَوْلَتِهِ، لَا عَلَيْهِ وَحْدَهُ؛ حَتَّى تَنْتَقِمُوا لِأَنْفُسِكُمْ بِأَضْعَافِ مَا اعْتَدَى بِهِ عَلَيْكُمْ، وَلَا هَمَّ لِأُمَمِكُمْ وَدُوَلِكُمْ إِلَّا امْتِلَاكُ ثَرْوَةِ الْعَالَمِ وَزَيَّنَتِهِ وَنَعِيمِهِ، وَتَسْخِيرِ غَيْرِكُمْ مِنَ الْأُمَمِ لِخِدْمَتِكُمْ بِالْقُوَّةِ الْقَاهِرَةِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِسَحْقِ مَنْ يُنَافِسُكُمْ فِي مَجْدِ هَذَا الْعَالَمِ الْفَانِي؛ لِعَدَمِ اهْتِمَامِكُمْ بِمَجْدِ الْمَلَكُوتِ الْبَاقِي. فَنَحْنُ لَا نُصَدِّقُ بِأَنَّكُمْ تَدِينُونَ اللهَ بِهَذِهِ الْكُتُبِ الَّتِي تَدْعُونَنَا إِلَيْهَا، حَتَّى تُقِيمُوهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَهَلْ يَعُدُّ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ مِثْلَ هَذَا الْخِطَابِ لَهُمُ اعْتِرَافًا مِنَّا بِسَلَامَةِ كُتُبِهِمْ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؟ أَمْ يَفْهَمُونَ أَنَّهُ حُجَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ لِأَجْلِ الْإِلْزَامِ؟ نَعَمْ، يَفْهَمُونَ هَذَا، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ لِعَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَهَادَةٌ لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِالسَّلَامَةِ مِنَ التَّحْرِيفِ!
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْقَسَمِ، الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ فِي أَوَّلِهَا، تُثْبِتُ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَزِيدُهُمُ الْقُرْآنُ، الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ الْمُنَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، إِلَّا طُغْيَانًا فِي فَسَادِهِمْ وَكُفْرًا عَلَى كُفْرِهِمْ؛ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا عَلَى إِيمَانٍ صَحِيحٍ بِاللهِ وَلَا بِالرُّسُلِ، وَلَا عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ مِمَّا تَهْدِي إِلَيْهِ تِلْكَ الْكُتُبُ، وَإِنَّمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ عَلَى تَقَالِيدَ وَثَنِيَّةٍ، وَعَصَبِيَّةٍ جِنْسِيَّةٍ، وَعَادَاتٍ وَأَعْمَالٍ رَدِيَّةٍ، فَهُمْ لِهَذَا لَمْ يَنْظُرُوا فِي الْقُرْآنِ نَظَرَ إِنْصَافٍ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ حَقِيقَةِ دِينِهِمُ الْحَقِّ مَا يُقَرِّبُهُمْ مِنْ فَهْمِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ؛ لِيَعْلَمُوا أَنَّ دِينَ اللهِ وَاحِدٌ؛ فَمَا سَبَقَ بَدْءٌ وَهَذَا إِتْمَامٌ، بَلْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْعُدْوَانِ، وَهَذَا سَبَبُ زِيَادَةِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ. وَالطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْمُعْتَادِ.
وَأَمَّا غَيْرُ الْكَثِيرِ، وَهُمُ الَّذِينَ حَافَظُوا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَلَمْ تَحْجُبْهُمْ عَنْ نُورِ الْحَقِّ تِلْكَ التَّقَالِيدُ، فَهُمُ الَّذِينَ يَرَوْنَ الْقُرْآنَ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ؛ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَنَّ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ هُوَ النَّبِيُّ الْأَخِيرُ، الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي كُتُبِهِمْ، فَيُسَارِعُونَ إِلَى الْإِيمَانِ، عَلَى حَسَبِ حَظِّهِمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَسَلَامَةِ الْوِجْدَانِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ نِسْبَةِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ إِلَى الرَّسُولِ هُنَا، وَنِسْبَةِ إِنْزَالِهِ إِلَيْهِمْ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمُ الْقُرْآنُ هُوَ أَنَّ خِطَابَهُمْ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ إِلَيْهِمْ، يُرَادُ بِهِ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهِ، وَمَدْعُوُّونَ إِلَيْهِ، وَمِثْلُهُ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (2: 136) وَأَمَّا إِسْنَادُ إِنْزَالِهِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ فَقَطْ، بَلْ يُشْعِرُ مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ إِنْزَالَهُ إِلَيْهِ سَبَبٌ لِطُغْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكْفُرُوا بِهِ لِأَجْلِ إِنْكَارِهِمْ لِعَقَائِدِهِ وَآدَابِهِ وَشَرَائِعِهِ أَوِ اسْتِقْبَاحِهِمْ، بَلْ لِعَدَاوَةِ الرَّسُولِ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَعَدَاوَةِ قَوْمِهِ الْعَرَبِ. وَقِيلَ إِنَّهُ يُفِيدُ بَرَاءَتَهُمْ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُمْ فِيهِ.
{فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أَيْ فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ تَمَكَّنَ الْكُفْرُ مِنْهُمْ، وَصَارَ وَصْفًا لَازِمًا لَهُمْ، وَهَذِهِ نُكْتَةُ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، وَحَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنْ مُؤْمِنِي قَوْمِكَ وَمِنْهُمْ؛ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْأَسَى: الْحُزْنُ، وَأَصْلُهُ إِتْبَاعُ الْفَائِتِ بِالْغَمِّ.
وَالْعِبْرَةُ لِلْمُسْلِمِ فِي الْآيَةِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُونَ عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ حَتَّى يُقِيمُوا الْقُرْآنَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ فِيهِ، وَيَهْتَدُوا بِهِدَايَتِهِ؛ فَحُجَّةُ اللهِ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا تِلْكَ التَّقَالِيدَ الَّتِي صَدَّتْهُمْ عَمَّا عِنْدَهُمْ مِنْ وَحْيِ اللهِ تَعَالَى عَلَى مَا كَانَ قَدْ طَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْرِيفِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَأَلَّا يَقْبَلَ مِنَّا مِثْلَ ذَلِكَ مَعَ حِفْظِهِ لِكِتَابِنَا أَوْلَى. وَالنَّاسُ عَنْ هَذَا غَافِلُونَ، وَبِالِانْتِسَابِ إِلَى الْمَذَاهِبِ رَاضُونَ، وَبِهَدْيِ أَئِمَّتِهَا لَا يَقْتَدُونَ، وَإِلَى حِكْمَةِ الدِّينِ وَمَقَاصِدِهِ لَا يَنْظُرُونَ {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (58: 18) وَلَمَّا كَانَ الِانْتِسَابُ إِلَى الدِّينِ لَا يُفِيدُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِإِقَامَةِ كِتَابِ الدِّينِ، بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ تِلْكَ الْحُجَّةِ، أُصُولَ الدِّينِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ إِقَامَةِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ كُلِّهَا، الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْجَزَاءُ وَالثَّوَابُ، فَقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} مُنَاسَبَةُ وَضْعِ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا لِمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا بَيَانُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يُقِيمُوا دِينَ اللهِ، وَمَا كَلَّفَهُمُ اللهُ إِيَّاهُ، لَا وَسَائِلَهُ وَلَا مَقَاصِدَهُ، فَلَا هُمْ حَفِظُوا نُصُوصَ الْكُتُبِ كُلَّهَا، وَلَا هُمْ تَرَكُوا مَا عِنْدَهُمْ مِنْهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَلَا هُمْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمِ الصَّالِحُ، وَلَا هُمْ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، كَمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، اللهُمَّ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ كَانَ مَخْبُوءًا فِي طَيَّاتِ الزَّمَانِ، أَوْ شِعَافِ الْجِبَالِ وَزَوَايَا الْبُلْدَانِ، كَانُوا يُعَذَّبُونَ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ، وَيُرْمَوْنَ بِالزَّنْدَقَةِ أَوِ الْهَرْطَقَةِ لِرَفْضِهِمْ تَقَالِيدَ الْكَنَائِسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَلْيُرَاجَعْ تَفْسِيرُهَا فِي الْمُفَصَّلِ فِي جُزْءِ التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَحْثٌ لَفْظِيٌّ لَيْسَ فِي تِلْكَ، وَهُوَ رَفْعُ كَلِمَةِ «الصَّابِئِينَ» وَتَقْدِيمُهَا عَلَى كَلِمَةِ النَّصَارَى؛ فَأَمَّا الرَّفْعُ فَفِي إِعْرَابِهِ وُجُوهٌ؛ أَشْهَرُهَا: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: «وَالصَّابِئُونَ كَذَلِكَ» أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ اسْمِ إِنَّ، وَقَدْ أَجَازَ كُوفُيُّو النَّحْوِيِّينَ هَذَا، وَعَدُّوهُ مِنَ الْفَصِيحِ إِذَا كَانَ اسْمُ إِنَّ مَبْنِيًّا، كَمَا هُوَ هُنَا، وَكَقَوْلِكَ: إِنَّكَ وَزَيْدٌ صَدِيقَانِ. وَالْبَصْرِيُّونَ يَمْنَعُونَهُ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ ** بُغَاةٌ مَا بَقِينَا فِي شِقَاقِ

وَالْإِعْرَابُ صِنَاعَةٌ يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى ضَبْطِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَفَهْمِهِ، وَالْعُمْدَةُ فِي إِثْبَاتِ اللُّغَاتِ كُلِّهَا السَّمَاعُ مِنْ أَهْلِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ بِالسَّمَاعِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ فَصِيحٌ، وَلَكِنْ مَا نُكْتَتُهُ؟ النُّكْتَةُ الَّتِي كَانَ بِهَا رَفْعُ الصَّابِئِينَ فَصِيحًا هَاهُنَا عَلَى مُخَالَفَتِهِ نَسَقَ عَطْفِ الْمَنْصُوبِ عَلَى الْمَنْصُوبِ هِيَ تَنْبِيهُ الذِّهْنِ إِلَى أَنَّ الصَّابِئِينَ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي تَعْلِيقِ نَفْيِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِشَرْطِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّحِيحِ، اللَّذَيْنِ تَتَزَكَّى بِهِمَا النُّفُوسُ، وَتَسْتَعِدُّ لِإِرْثِ الْفِرْدَوْسِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا غَيْرَ مَعْرُوفٍ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ الصَّابِئُونَ غَيْرَ مَظِنَّةٍ لِإِشْرَاكِهِمْ فِي الْحُكْمِ مَعَ أَهْلِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، حَسُنَ فِي شَرْعِ الْبَلَاغَةِ أَنْ يُنَبَّهَ إِلَى ذَلِكَ بِتَغْيِيرِ نَسَقِ الْإِعْرَابِ. فَمِثْلُ هَذَا التَّغْيِيرِ لَا يُعَدُّ فَصِيحًا إِلَّا فِي هَذَا التَّعْبِيرِ، وَهُوَ مَا كَانَ لِمَا تَغَيَّرَ إِعْرَابُهُ وَأُخْرِجَ عَمَّا يُمَاثِلُهُ صِفَةٌ خَاصَّةٌ تُرِيدُ التَّنْبِيهَ عَلَيْهَا. فَإِذَا قُلْتَ: «إِنَّ زَيْدًا وَعَمْرًا- وَكَذَا بَكْرٌ- أَوْ بَكْرٌ كَذَلِكَ- قَادِرُونَ عَلَى مُنَاظَرَةِ خَالِدٍ» لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ بَلِيغًا إِلَّا إِذَا كَانَ بَكْرٌ فِي مَظِنَّةِ الْعَجْزِ عَنْ مُنَاظَرَةِ خَالِدٍ، وَأَرَدْتَ أَنْ تُنَبِّهَ عَلَى خَطَأِ هَذَا الظَّنِّ، وَعَلَى كَوْنِ بَكْرٍ يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو.
وَهَاهُنَا قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ فِي الْبَلَاغَةِ، تَدْخُلُ فِي بَلَاغَةِ النُّطْقِ وَالْكِتَابَةِ؛ وَهِيَ أَنَّ مَا يُرَادُ تَنْبِيهُ السَّمْعِ أَوِ اللَّحْظِ إِلَيْهِ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ أَوِ الْجُمَلِ يُمَيَّزُ عَلَى غَيْرِهِ، إِمَّا بِتَغْيِيرِ نَسَقِ الْإِعْرَابِ فِي مِثْلِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ مُطْلَقًا، وَإِمَّا بِرَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْخَطَابَةِ، وَإِمَّا بِكِبَرِ الْحُرُوفِ، أَوْ تَغْيِيرِ لَوْنِ الْحِبْرِ، أَوْ وَضْعِ الْخُطُوطِ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابَةِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَكْتُبُونَ الْقُرْآنَ فِي التَّفْسِيرِ وَالْمُتُونَ الْمَشْرُوحَةَ بِحِبْرٍ أَحْمَرَ، وَفِي الطَّبْعِ يَضَعُونَ الْخُطُوطَ فَوْقَ الْكَلَامِ الَّذِي يُمَيِّزُونَهُ؛ كَآيَاتِ الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، ثُمَّ صَارَ الْكَثِيرُونَ مِنْهُمْ يُقَلِّدُونَ الْإِفْرِنْجَ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْخُطُوطِ تَحْتَ الْكَلَامِ الَّذِي يُرِيدُونَ التَّنْبِيهَ عَلَيْهِ بِتَمْيِيزِهِ.
وَقَدْ تَجَرَّأَ بَعْضُ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى دَعْوَى وُجُودِ الْغَلَطِ النَّحْوِيِّ فِي الْقُرْآنِ! وَعَدَّ رَفْعَ الصَّابِئِينَ هُنَا مِنْ هَذَا الْغَلَطِ! وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ السَّخْفِ وَالْجَهْلِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ الْجُرْأَةُ مِنَ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ مِنْ قَوَاعِدِ النَّحْوِ مَعَ جَهْلٍ أَوْ تَجَاهُلِ أَنَّ النَّحْوَ اسْتُنْبِطَ مِنَ اللُّغَةِ، وَلَمْ تُسْتَنْبَطِ اللُّغَةُ مِنْهُ، وَأَنَّ قَوَاعِدَهُ إِذَا قَصُرَتْ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِبَعْضِ مَا ثَبَتَ عَنِ الْعَرَبِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِقُصُورٍ فِيهَا، وَأَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ نَقْلُهُ عَنِ الْعَرَبِ فَهُوَ عَرَبِيٌّ صَحِيحٌ، وَلَا يُنْسَبُ إِلَى الْعَرَبِ الْغَلَطُ فِي الْأَلْفَاظِ، وَلَكِنْ قَدْ يَغْلَطُونَ فِي الْمَعَانِي، وَلَمْ تُوجَدْ لُغَةٌ مِنْ لُغَاتِ الْبَشَرِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا تَتَرَقَّى اللُّغَاتُ وَتَتَّسِعُ بِالتَّدْرِيجِ، وَلَمْ يَكُنِ التَّجْدِيدُ فِي مُفْرَدَاتِهَا وَمُرَكَّبَاتِهَا، وَالتَّصَرُّفُ فِي أَسَالِيبِهَا وَمُشْتَقَّاتِهَا بِالتَّشَاوُرِ وَالتَّوَاطُؤِ بَيْنَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ وَلَا بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ مِنْهَا- إِلَّا مَا يَحْصُلُ فِي بَعْضِ الْمَجَامِعِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ عِنْدَ بَعْضِ الْإِفْرِنْجِ فِي هَذَا الْعَصْرِ- وَإِنَّمَا كَانَ التَّصَرُّفُ وَالتَّجْدِيدُ مِنْ عَمَلِ الْأَفْرَادِ، وَلاسيما مَنْ يَشْتَهِرُونَ بِالْفَصَاحَةِ؛ كَالْخُطَبَاءِ وَالشُّعَرَاءِ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمُعْتَرِضُ ضَعِيفَ الْعَقْلِ أَوْ قَوِيَّ التَّعَصُّبِ عَلَى الْإِسْلَامِ لَنَهَاهُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ رِوَايَةُ هَذَا اللَّفْظِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَكَيْفَ وَقَدْ تَلَقَّتْهُ الْعَرَبُ بِالْقَبُولِ وَالِاسْتِحْسَانِ، فَكَانَ إِجْمَاعًا عَلَيْهِ أَقْوَى مِنْ إِقْرَارِ الْأَنْدِيَةِ الْأَدَبِيَّةِ «الْأَكَادِمِيَّاتِ» الْآنَ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَنْهَاهُ مِثْلُ ذَلِكَ نَقْلُهُ عَنْ أَيِّ بَدَوِيٍّ مِنْ صَعَالِيكِ الْعَرَبِ، وَلَوْ بِرِوَايَةِ الْآحَادِ. وَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ يُعِدُّ ذَلِكَ الْمُتَعَصِّبُ الْأَعْمَى مُبْتَكَرَاتِ مِثْلِ شِكْسِبِيرَ فِي الْإِنْكِلِيزِيَّةِ وَفِيكْتُورْ هِيغُو بِالْفَرَنْسِيَّةِ مِنَ اللَّحْنِ وَالْغَلَطِ فِيهَا؟
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الصَّابِئِينَ هُنَا عَلَى النَّصَارَى فَمَنْ قَالَ إِنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ آمَنُوا هُنَا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ يَرَى أَنَّ نُكْتَتَهُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ بِالتَّرَقِّي مِنَ الْجَدِيرِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ- إِذَا صَحَّ إِيمَانُهُ وَدُعِّمَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ- إِلَى الْأَجْدَرِ بِذَلِكَ، وَيَجْعَلُ النَّصَارَى أَقْرَبَهَا إِلَى الْقَبُولِ، وَيَلِيهِمْ عِنْدَهُ الصَّابِئُونَ فَالْيَهُودُ فَالْمُنَافِقُونَ. وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ، بَلْ مُطْلَقَ الْجَمْعِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ النُّكْتَةِ لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. اهـ.